لعل المكانة العالية التي يحتلها صحابة النبي في نفوس كثير من المسلمين، تتأتى من اعتبارهم المتلقين الأولين للوحي الذي نزل على النبي محمد، صلى الله عليه وسلم، إلى جانب دخول هذا الوحي في تفاعل وحوار معهم نتج عنه تشريع آيات خاصة بحياتهم وضروب معيشتهم، مما ترتب على ذلك من وجود تشريعات خاصة بهم توقفت بطبيعة الحال على فهمهم لهذا الوحي.
وإذ يبدو أن إسهام ابن الخطاب في فرض بعض الأحكام لم يتوقف عند سبب تشريع بعض الآيات القرآنية كآية الحجاب، وذلك أثناء نزول الوحي على النبي صلى الله عليه وسلم، فيما بات يُعرف بموافقات عمر، وهي بعض الآيات القرآنية التي نزلت موافقة لرأي وأقوال عمر، بحسب ما أقر هو ذاته بقوله فيقول، «وافقت ربي –أو وافقني ربي- في ثلاث: في الحجاب، وفي أسارى بدر، وفي مقام إبراهيم». بل قد راح يجتهد في كثير من الأحكام، بعد انقطاع الوحي وتدوين القرآن، وذلك وفقاً لفهمه وتدبره للآيات الخاصة بها.
في هذه المقالة سنحاول بيان بعض التشريعات التي أقرها عمر بن الخطاب كتشريعه على سبيل المثال للحجاب، وحد الرجم، والأذان، وصلاة التراويح، وإسقاطه تشريعات أخرى بعد وفاة النبي كزواج المتعة ومتعة الحج وسهم المؤلفة قلوبهم... وغيرها.
تورد كتب السيرة كثيراً من الحالات التي كان الوحي فيها استجابة مباشرة لرأي الصحابة، وعلى رأسهم عمر بن الخطاب، فخصص السيوطي في كتابه «الإتقان في علوم القرآن» فصلاً بعنوان «فيما نزل من القرآن على لسان بعض الصحابة»، وأول ما ذكره في هذا الأمر هو في الحقيقة نوع من أسباب النزول، والأصل فيه موافقات عمر.
ترسم السيرة شخصية عمر على المستوى الاجتماعي الأخلاقي شخصية حازمة متشددة في المسائل الأخلاقية المتعلقة بالنساء، خلافاً لشخصية النبي الذي كان ليناً حليماً في معاملته مع زوجاته، وينصح المسلمين بذلك.
يذكر ابن سعد في « الطبقات»، أن عمراً كان ينصح النبي بضرب زوجاته عندما يلححن عليه في طلب، وكان يقدم نفسه أنموذجاً لذلك فيقول، «يا نبي الله قد صككت جميلة بنت ثابت، ألصقت خدها منها بالأرض، لأنها سألتني ما لا أقدر عليه».
وقد كانت النساء يهبنه أكثر مما يهبن النبي، فيروي ابن سعد، «استأذن عمر على رسول الله وعنده نساء من قريش يكلمنه ويستكسينه عالية أصواتهن، فلما استأذن عمر تبادرن بالحجاب، فدخل عمر ورسول الله يضحك، فقال عمر أضحك الله سنك يا رسول الله، فقال النبي، ضحكت من هؤلاء اللاتي كن عندي، فلما سمعن صوتك بادرن بالحجاب، فقال عمر يا عدوات أنفسهن أتهبنني، ولا تهبن رسول الله؟ قلن: أنت أغلظ وأفظ من رسول الله».
وكثير ما كان عمر يعاتب زوجات النبي ويحذرهن من طلاق النبي لهن، وحرص على منعهن من التظاهر على الرسول حتى لا تقتدي بهن سائر زوجات النبي.
تروي كتب السيرة أن عمر راح يلح مراراً على النبي في ضرب الحجاب على زوجاته وسائر المسلمات، ولكن النبي كان يبادره بالرفض، فكان عمر يقول لرسول الله، «احجب نساءك فلم يكن يفعل»، بحسب ما ذكر ابن سعد «في الطبقات».
إلى أن صادف عمر إحدى زوجات النبي وهى سودة التي كانت تمتاز بطول قامتها حينما كانت خارجة لقضاء حاجتها، إذ كانت أزواج النبي يخرجن بالليل إلى حوائجهن بالمناصع.. فناداها عمر بصوته الأعلى، «قد عرفناك يا سودة، حرصاً على أن ينزل الحجاب»، وفقاً لما ذكره النيسابوري في «أسباب النزول».
ومن الجدير بالذكر أن الداعي الذي كان وراء حرص عمر على فرض الحجاب على النساء الحرائر منهن فحسب، كان مرتبطاً بالأساس بظروف وشكل المجتمع الإسلامي في المدينة، إذ كانت المنازل في المدينة لا تحتوي كُنُفاً، ولما كان النساء يخرجن لحاجاتهن يتعرض لهن السفهاء فيؤذين، فكانت الحرة تخرج فتُحسب أنها أمة فتؤذى -وذلك بنحو ما أقر النيسابوري عن السدي قال، كانت المدينة ضيقة المنازل، وكان النساء إذا كان الليل خرجن يقضين الحاجة، وكان فساق من فساق المدينة يخرجون، فإذا رأوا المرأة عليها قناع قالوا: هذه حرة، فتركوها، وإذا رأوا المرأة بغير قناع قالوا، هذه أمة، فكانوا يراودونها.
والذي نستنتجه من ذلك أنّ مفهوم الحجاب هو مفهوم مرتبط بسياقه التاريخي الذي اعتبره رمزاً من رموز التمايز بين الأمة والحرة، والدليل على ذلك ما رواه ابن سعد عن عمر أنه «كان يطوف في المدينة فإذا رأى أَمَة محجبة ضربها بدرته الشهيرة حتى يسقط الحجاب عن رأسها، ويقول: فيمَ الإماء يتشبهن بالحرائر؟».
تذكر ناجية الوريمي في هذا الشأن في كتابها «في الائتلاف والاختلاف»، أن المفسرين تعاملوا مع آية الحجاب وهي قوله تعالى، «يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ ۚ ذَٰلِكَ أَدْنَىٰ أَن يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ ۗ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا»، تعاملاً لا يخرج عن النزوع الفقهي، إذ ركزوا على صفة الإدناء الواردة في الآية، وغيبوا ملابسات نزولها، بخاصة من دور عمر في هذه العملية.
ولقد كان اعتناء المفسرين بالبعد الفقهي للآية، من باب التشريع لنمط السلوك الذي ينبغي أن يسود في الواقع، وكان لا بد لهذا التشريع أن يحافظ على إطلاقه، بإبعاد الحيثيات التاريخية البشرية من أسباب نزول الآية، حتى يتمتع بسلطة القداسة، والشروط التي تقوم عليها هذه السلطة هي تأكيد صدور المعنى المراد عن إرادة مفارقة، وطمس كل معنى فرعي مخالف يمكن أن يُفهم من أسباب تصله بواقع ما وبزمن ما.
يذكر فاضل الأنصاري في كتابه «العبودية، الرق والمرأة بين الإسلام الرسولي والإسلام التاريخي»، أن الإسلام قد واجه في تنظيم مجتمعه الأول إشكالية حقيقية وهو يعالج حالة عميمة دون حدود، اعتبرت الزنى والسفاح من حقوق الرجل الحيازية التي يندر معها من لم يمارسه في جاهليته، وكانوا يفاخرون بمن يصبي النساء ويمنع زوجته أن يزني بها أحد بغير رضاه، ووصل الأمر عند بعض القبائل سماحها للضيف بأن يضاجع صاحبة المنزل.
وورد في سيرة ابن هشام أن قبائل معينة مثل دوس وهذيل وثقيف اشترطت على النبي إباحة الزني للدخول في الإسلام.
ويوضح خليل عبدالكريم في كتابه «مجتمع يثرب» ما آل إليه تعدد الطوائف في مجتمع المدينة بين مؤمنين قد آمنوا بالله ورسوله قبل الهجرة، ومشركين لم يدخل الإيمان إلى قلوبهم، ويهود قد استمسكوا بما توارثوا من دينهم، والمنافقين الذين ادعوا الإيمان ولكنهم أخفوا المكيدة والحقد للرسول وتابعيه.
نشأت بين الجميع علاقة معقدة مليئة بالنزاعات والحروب المُسجلة في كتب التاريخ والسير، وقد أدرك الكفار والمشركون ومعهم اليهود، أن تفوق المسلمين وتحقيق كثير من الانتصارات ليس راجعاً إلى عوامل اقتصادية، لأن وسائل القوة كلها كانت في أيدي الكفار، وكذلك لم يكن السبب راجعاً إلى كثرتهم في العدد لأن المشركين كانوا أضعاف عدد المسلمين، وإنما هو راجع إلى تفوقهم المعنوي، وأن ذلك التفوق والروح المعنوية كان نابعاً من الإيمان بقائدهم الرسول صلى الله عليه وسلم، وما يحثهم عليه من طهارة النفوس والأخلاق والقيم الفردية والجماعية.
وبالتالي لم يجد المشركون أمامهم سوى إحداث الفتن داخل نظام المسلمين، خصوصاً نظامهم الأخلاقي، فأخذوا يدفعون «أصحاب الرايات» وهن نسوة كن معروفات بالزنا من أهل الشرك، يعرضنَّ أنفسهن على المسلمين.
إلى جانب ذلك واجه الرسول معضلة اجتماعية من أعقد المشاكل الاجتماعية التي صادفته في مجتمع يثرب وهى (مشكلة المغيبات)، وهن الزوجات اللاتي يشترك أزواجهن في الغزوات والسرايا، فكان على الرسول أن يضمن للرجال الذين يغزون ويحاربون تغطية مسكنه وسلامة إناثه حتى يرجع، وإلا أحجم الرجال على الانخراط في الغزوات والسرايا خوفاً على بيوتهم، ووقوع نسائهم في الفاحشة، ومن ثم كان من الضروري تشريع حدٍّ ترهيبي يمنع الناس في ذلك الوقت عن الوقوع في الزنى، فشرع قوله تعالى: «الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ.....» (سورة النور آية: 2). وذلك وفقاً لما ذُكر في «أسباب النزول» للواحدي النيسابوري.
وضمن هذه المعايير المضطربة المتناقضة من موقف الزنى وإقامة الحدود بشأنه تناقضت كذلك ردود الأفعال بين النبي وصحابته إزاء وقائع الزنى، فنجد تباين الروايات بشأن (حد الرجم في الإسلام)، فهناك روايات توضح أن النبي قد أقر به بوصفه ممارسة اجتماعية متأصلة في الديانة اليهودية، إذ يروي -البخاري في صحيحه- أن أناساً قد أتوا إلى النبي بيهودي ويهودية قد زنيا، وحين سألهم النبي في البداية ماذا تجدون في كتابكم كعقابٍ على هذه الفاحشة، ادعوا أن عقابها هي تحميم الوجه أي تسويد الوجه، والتَّجبيهَ أي ركوب الحمار بالمقلوب، فأشار عبد الله بن سلام على النبي أن يأتوا له بالتوراة التي وجدوا فيها أن الرجم هو العقاب على هذه الفاحشة، رغم محاولة أحدهم إخفاء ذلك، بوضع يده عن الآية المعنية بذلك.
هنا يتجلّى دور عمر بن الخطاب الذي يُصر الرواة أنه صاحب الإقرار الأشهر بتشريع حد الرجم وفقاً لما رواه مسلم في صحيحه، «عن عبدالله بن عباس يقول قال عمر بن الخطاب وهو جالس على منبر رسول الله: إن الله قد بعث محمداً بالحق، وأنزل عليه الكتاب فكان مما أنزل عليه آية الرجم قرأناها ووعيناها وعقلناها فرجم رسول الله، ورجمنا بعده، فأخشى إن طال بالناس زمان أن يقول قائل: ما نجد الرجم في كتاب الله، فيضلوا بترك فريضة أنزلها الله، وإن الرجم في كتاب الله حق على من زنى إذا أحصن من الرجال والنساء إذا قامت البينة أو كان الحبل أو الاعتراف»، وزاد أبو داود: «وَايْمُ اللَّهِ، لَوْلَا أَنْ يَقُولَ النَّاسُ: زَادَ عُمَرُ فِي كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، لَكَتَبْتُهَا».
تتوالى علاقة عمر بالوحي ضمن أُطر موافقاته في ما تعلق بالأذان، فتذكر لنا كتب السيرة أن الأذان كان من الأمور التي أرقت النبي صلى الله عليه وسلم، إذ كيف يجمع المسلمون صفوفهم للصلاة بطريقة مميزة عما هو سائد لدى اليهود والنصارى، فانشغل النبي بهذا الأمر وطلب رأي الصحابة الذين أهمهم الأمر كذلك، حتى إن بعضهم حكى عزوفه عن الأكل لانشغاله المستمر بالأمر.
وفي حين أقرت بعض الروايات أن مقترح الأذان كان من أحد الأنصار وهو عبد الله بن زيد الخزرجي الذي رأى في المنام نص الأذان وكلماته، فأعجب به النبي وأقره وقال لصاحبه قم مع بلال فألقها عليه، على نحو ما أقر ابن سعد في «الطبقات». فإن روايات أخرى قد أقرت أن عمر بن الخطاب قد سبق عبدالله بن زيد في رؤيته المنامية للأذان، إلا أنَّ إخباره للنبي قد تأخر عنه، ويروي أبو داود الرواية كاملة في سننه قال، «اهتم النبي للصلاة كيف يجمع الناس لها، فذكروا له القبع –يعني شبور اليهود- فلم يعجبه ذلك، وقال: هو من أمر اليهود، فذكروا له الناقوس، فقال: هو من أمر النصارى، فانصرف عبد الله بن زيد وهو مهتم لهمّ رسول الله فأُري الأذان في منامه، وكان عمر بن الخطاب قد رآه قبل ذلك فكتمه 20 يوماً، ثم أخبر به النبي فقال له: ما منعك أن تخبرني؟ فقال: سبقني عبد الله بن زيد فاستحييت!».
إلى جانب تأكيد بعض الأخبار أن عمر قد تدخل في صيغة الأذان فقد أضاف على الأذان إضافتين واحدة على عهد النبي التي أقرها له وهي إضافة «أشهد أن محمداً رسول الله» -بحسب ما أورد السيوطي في «تاريخ الخلفاء»، والإضافة الأخرى في عهد عمر ذاته أي بعد وفاة النبي وهي «الصلاة خير من النوم»، فيروى مالك في موطئه «أن المؤذن جاء إلى عمر يؤذنه بصلاة الصبح فوجده نائماً، فقال: الصلاة خير من النوم، فأمره عمر أن يجعلها في نداء الصبح».
وفضلاً عن ذلك لم يكن الأذان وحده، مما اجتهد بشأنه عمر، بل هناك ممّا اندرج أيضًا ضمن العبادات الدينية، وانطوى تحت باب التشريعات الصحابية، ومنها صلاة التراويح التي سنها ابن الخطاب بالرغم من أن النبي لم يشرعها وذلك -بحسب ما أخرج البخاري في صحيحه- عن عبد الرحمن بن عبد القارئ قال: خرجت مع عمر ليلة في رمضان إلى المسجد فإذا الناس أوزاع متفرقون، فقال عمر: إني أرى لو جمعت هؤلاء على قارئ واحد كان أمثل، ثم عزم فجمعهم على أُبي بن كعب، ثم خرجت معه ليلة أخرى والناس يصلون بصلاة قارئهم. قال عمر: نعمت البدعة هذه.
لم تقف اجتهادات عمر عند حد توافق الوحي له في بعض التشريعات، بل وصل الأمر معه إلى تعطيل ومنع بعض التشريعات التي ورد فيها نص قرآني قطعي، ولعل أشهر مثال على ذلك ما أورده مسلم في صحيحه، هو ما تعلق «بمتعة النساء» أو ما يُعرف «بنكاح» زواج «المتعة»، لا سيما وقد أقره النبي صلى الله عليه وسلم، في عهده، واستمر المسلمون على العمل به في عهد أبي بكر، إلى أن جاء عمر حتى نهى عنه بقوله، «متعتان كانتا على عهد رسول الله وأنا أنهى عنهما وأعاقب عليهما: متعة الحج، ومتعة النساء».
وفى رواية أخرى يجعل عقاب من ينكح امرأة إلى أجل وهو تعريف نكاح المتعة، هو الرجم بالحجارة، فروي مسلم «كان ابن عباس يأمر بالمتعة، وكان ابن الزبير ينهى عنها، فلما قام عمر قال: إن الله كان يحل لرسوله ما شاء أن يشاء فأتموا الحج العمرة، وأبتوا أي اقطعوا أو انقطعوا عن «نكاح هذه النساء، فلن أوتى برجل نكح امرأة إلى أجل إلا رجمته بالحجارة».
ومن التشريعات التي أقرها عمر منع صدقات المؤلفة قلوبهم، التي استحقوها وفق ما تجلى في قوله تعالى، «إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ». [التوبة:60].
ويبدو من خلال بعض الأخبار وفقاً لما أقره السرخسي في كتابه «المبسوط»، أن عمر رأى منع المؤلفة قلوبهم منذ خلافة أبي بكر، فقد رُوي أن أبا بكر حينما تولى الخلافة جاء المؤلفة قلوبهم لاستيفاء سهمهم جرياً على عادتهم مع النبي صلى الله عليه وسلم، إذ كان، صلى الله عليه وسلم، يعطي لبعض أشراف قريش سهماً يتألفهم ليسلموا، ومنهم قوم أسلموا بنيات مغرضة أو ضعيفة فيؤلف قلوبهم بإجزال العطاء كأبي سفيان على سبيل المثال وعيينة بن حصن والأقرع بن حابس... وغيرهم، فكتب لهم أبو بكر بذلك في البداية، ولكن سرعان ما منعهم إقراراً لما فعله ابن الخطاب الذى رفض إعطاءهم السهم بقوله لهم: لا حاجة لنا بكم فقد أعز الله الإسلام وأغنى عنكم، فإن أسلمتم وإلا السيف».
ولم يُسقط عمر فقط سهم المؤلفة قلوبهم، بل قد أسقط أيضاً سهم قرابة النبي من الخمس المنصوص عليه بالآية «وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ...».
لقد قُرئت موافقات عمر في بعض الدراسات الحديثة بخاصة تعطيله بعض التشريعات المنصوص عليها بنص قرآني، للدلالة على اجتهادات متوقفة بطبيعة الحال على المصلحة العامة، فيصرح الجابري الذي اعتبر عمر المُشرع الأول في الإسلام بعد الكتاب والسنة في كتابه «الدين والدولة وتطبيق الشريعة» أن عمر إذا كان قد عمل باجتهاده، واجتهاد الصحابة الذين استشارهم، في مسألة فيها نص، فوضع الخراج على الأراضي المفتوحة عنوة بدل من تقسيمها بين المقاتلين، مراعياً في ذلك المصلحة، مصلحة الحاضر والمستقبل، وإذا كان قد عدل عن قسمة الغنائم بالسوية، كما كان يفعل النبي وأبو بكر، وارتأى أن العدل يقتضي قسمتها على أساس السبق في الإسلام والقرابة من الرسول، قد اعتبر المصلحة ومقاصد الشرع فوضعهما فوق كل اعتبار، فلماذا لا يقتدي المجتهدون والمجددون اليوم بهذا النوع من الاجتهاد، مؤكداً بذلك أن عمل الصحابة كان مطبوعاً بالنسبية والنظرة التاريخية، مما يجعل عملهم ذاك مفتوحاً وملهماً لفتح الباب للتجديد والاجتهاد.
وتحذو ناجية الوريمي في كتابها «في الائتلاف والاختلاف» حذو الجابري مستدلة بفلسفة عمر التشريعية التي كانت قائمة «على علاقة محددة بين النص والواقع، وهي علاقة تحرر الواقع من سلطة قراءة واحدة ثابت، وتجعل هذا النص داعماً لاجتهاد غايته تحسين الواقع وتطويره»، للتأكيد على تعددية القراءات للنص القرآني تقتضيها الظروف الراهنة ومصلحة المسلم.
أما نادر الحمامي فيقر في كتابه «صورة الصحابيّ في كتب الحديث» بأن اجتهادات عمر جاءت استجابة للمصلحة السياسية لا مصلحة المسلمين بصفة مطلقة، فيستدل بمنع عمر سهم المؤلفة قلوبهم، وإسقاطه حق قرابة النبي من الفيء على وجه الخصوص، ليكشف على أن تصرف عمر كان نابعاً من رؤية سياسية تسعى إلى تجنب أن تكون لقرابة النبي أموال يمكن أن تكون مصدر قوة «تهدّد حُكم الخلفاء التالين ويكونون مصدر خطر على دولة الإسلام بأسرها».
بل ذهب إلى أبعد من ذلك باقراره أن الأخبار قد سعت إلى تضخيم عدد موافقات عمر لغاية تبرير ما أقدم عليه زمن خلافته من أعمال تتعارض مع ظاهر النص القرآني. ومن هذا المنطلق يمكن أن نفهم كثرة الأحاديث المؤكدة أن عمر كان «إذا رأى الرأي نزل به القرآن».